لا تحاول تبسيط ما يجري في سوريا لأنك ستفشل. ولكننا لا نستطيع أن نذعن للتعقيد كذلك.
إن العديد من النقاشات حول سوريا – وخصوصاً تلك التي تجري خارج سوريا– هي وبكل بساطة منفصلة عن واقع المأساة في هذا البلد، وقد تكون كتاباتي من بينها. فمثلاً، ولأول مرة بعد خمس عشرة عاماً من البحوث المعمقة عن السياسة والمجتمع السوري، بما تطلبه ذلك من زيارات متعددة ومطولة في كل سنة، أمضيت العامين المنصرمين وأنا أكتب (وأتعذب) حول سوريا دون أن تتاح لي الفرصة للزيارة، وذلك يعود بشكل رئيسي لأنه قيل لي بأني غير مرحب بي هناك. (كانت زيارتي الأخيرة في كانون الأول / يناير عام 2011، عندما كتبت، وبالمصادفة، هذه المقالة عن الانتفاضة التونسية.)
فعلى سبيل المثال، قصف طائرات النظام لمخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق الذي وقع مؤخراً. إن الجدال أو النقاش الذي يدور في الخارج يستعر دون توقف ودون جدوى. هل هو هجوم على الفلسطينيين مما يكشف أنهم كانوا مجرد ورقة تفاوض في السابق؟ أم أنه هجوم على جبهة النصرة [حقاً؟ هل هذا هو ما آلت الانتفاضة إليه؟] (أو مجموعات معارضة أخرى) التي استطاعت التسلل ويجب الآن اقتلاعها بأي ثمن؟ أم أنه مجرد مثال إضافي حيث يسهّل أو يقوم النظام بقصف أو تخريب مخيم للفلسطينيين كما في تل الزعتر؟ ولكن ألم يكن النظام تاريخياً المدافع الرئيسي وحامي المجموعات الفلسطينية المتعددة؟ ...الخ. إن الرواية التاريخية حول دور فلسطين والفلسطينيين، كما يتم تقديمها في الـ "ميتا – خطاب" (النظريات التاريخية التي تقدم رواية متكاملة بناء على الحقيقة والقيم الشاملة )، تصبح هي العدسة التي يمكن من خلالها رؤية أو تفسير حدث أو مجموعة من الأحداث. كل ما عدا ذلك حول المخيم، بما في ذلك تنوعه وتاريخه الغني، يصبح محض خلفية.
الصواب والخطأ لأسباب خاطئة
إن الادعاءات التي يتم تقديمها من قبلي أو من قبل محللين آخرين للوضع السوري، بما في ذلك المحللين الفوريين والمفاجئين الذين ما يزالون يظهرون فجأة مثل فرقعة الفشار ومن أغرب الأماكن (لقد وجدت اثنين منهم في خزانة حمامي)، يمكن أن تكون على صواب أو على خطأ، أو على صواب بشكل مشروط. قد يجارون الصواب أو يحيدون عنه لأسباب خاطئة، إلى حد أن يحصل طلاق بينهم وبين السياق على الصعيد المحلي. يأتي هذا الطلاق على تدرجات، من المنهجيين الصارمين اللذين يجرون الحسابات الدقيقة، إلى المتعاطفين غير المطلعين، إلى أصحاب المصالح اللذين ابتعدوا عن ما هو خير لسوريا والسوريين. ومع ذلك، فجميعهم يشارك ويلعب دوره بنفس السوية من الحماس. أصبحت سوريا الآن لعبة، تلعبها الدول والمؤسسات والمحللين والنشطاء والصحفيون والمدونون والمغردون والفنانون. وصلاتهم بالواقع المعيشي للسوريين وبمعاناتهم تأتي عن بعد. نحن ننتج الحقيقة عن طريق لقطات حصل طلاق بينها وبين التاريخ والألم التراكميين اللذان أديا إلى هذا الواقع. هذه اللقطات تصبح انعكاساً لطبيعة العالم اللذين ننظر إليهم ونزعة أبدية في هذا الخصوص. ولا تصبح هذه اللقطات انعكاساً للظروف والبراغماتية والكرامة التي يعيشونها. ثم نقوم بتجمعيها في فسيفساء متراصة ونعطيها الأولوية، كما نقوم بدمجها في كتلة واحدة من الأفكار والمصطلحات والروايات و/أو في نماذج قد تم استحضارها من قبل محللين وسياسيين عفا عليهم الزمن. ننهي المقالة أو التغريدة، ونحفظها ومن ثم نرسلها وبعد أن نغلق الجهاز نتابع أعمالنا. إننا نستطيع فعل ذلك، ولكن الذين يعيشون في سوريا لا تتوفر لديهم هذه الرفاهية.
عدم ارتباط الميتا – خطاب
ينظر أولئك الذين يعيشون في سوريا إلى الأمور بطريقة مختلفة. فعندما يسمعون مصطلحات النقاش في سوريا يبتسمون عاجزين وخائبي الظن ومنتقدين بآن معاً. كما وأن اللذين يتحدثون عما يجري في سوريا، من كلا الطرفين، يتحدثون عن شيء تخيلي وليس عن وقائع على الأرض. إن الناس خارج سوريا يخنقون بعضهم بعضاً حرفياً بشكل منطقي وبدني. فهم يتجادلون على من له الأولوية، المقاومة أم الإمبريالية، المقاومة أم الديكتاتورية. بينما معظم السوريين يفكرون بأمنهم الشخصي والطعام والكهرباء وحماية عائلتهم، وإمكانية موتهم سوياً خلال الجولة القادمة من الاشتباكات في حيهم. إن أهم أمر من الناحية التحليلية، هو افتراضنا الخاطئ بأن أراءهم ثابتة، في حين أنها غير ذلك. فهي تتغير مع الظروف، وهذا سلوك عقلاني تماماً.
بفضل المجموعات المسلحة التي أتقنت الآن – حتى أنها فاقت حسب بعض الروايات – الوحشية المتواترة للنظام أصبح من الصعب على المرء أن يجد قضية أو سيناريو مستقبلي ليتمسك به. تحت هذه الظروف، فإن أمور الحياة اليومية تطغى على الميتا – خطاب والتي هي ليست بالضرورة غير مهمة، ولكنها أصبحت غير ذات صلة لمعظم السوريين. نتيجة هذا، تلك الابتسامة التي يرسمها السوريون المحليون على وجوههم في مواجهة الميتا – خطاب التي نتجشؤها على الطرف الآخر والتي ينقر عليها الناس "أعجبني – لايك" أو لا ينقرون.
لا يعطي هذا الانفصال المادي الامتياز للمحللين الداخليين آلياً إن أردنا أن نكون عادلين. فبعض التحليلات الأكثر فجاجة تأتي من داخل سوريا. ومع أننا نستطيع نبذ تلك التحليلات بناء على هذا الأساس، لكن لا يمكننا صرف النظر عنها لأنها تعبير حقيقي لأمور حقيقية، مهما كانت عيوبها.
نحن اللذين لدينا عائلة أو أصدقاء أو زملاء في سوريا نتواصل معهم بشكل يومي، ونحن اللذين نقرأ الأخبار السورية الواردة من كل حدب صوب، نعلم أن النقاشات داخل سوريا أكثر عمقاً وواقعية. نعلم بأن المواقع غالباً ما تعكس عاقبة فعل ما آنياً، ونعلم بأن المساومات السياسية ليست أكاديمية أو نظرية: يموت الناس نتيجة لهذه المواقف. قد تعني المساومات السياسية الفرق بين أن يستطيع الفرد تأمين قوت عائلته وبين ألا يستطيع وضع الطعام على المائدة في كل يوم، أو ألا يستطيع البقاء في منزله في تلك الليلة.
نجاح الميتا – خطاب
ومع ذلك، فما زلنا نحن اللذين خارج سوريا نتجادل. وإننا نربح، للأسف. إن الميتا – خطاب الذي أنتجته الدول والمؤسسات والأفراد قد أصبح أهم مما يحصل في سوريا. لقد أصبح أثمن من الناس اللذين من المفترض أننا نحارب باسمهم. لقد أفرغ المبدأ من محتواه. انتصرت المبادئ المجردة – والتي عادة ما تكون مفيدة – على الواقع مجدداً، بينما هي منفصلة عنه. تُنتج سوريا الآن بالجملة غالباً في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وفي مواقف القوى العظمى التي تستطيع شراء المواقف أو تعزيز روايتها أو تؤثر بالأحداث، غالباً عن طريق قيامها بلا شيء.
هذا لا يعني أن السياسة لا تلعب دوراً في كل هذا. إن الخاسر الأكبر من دمار سوريا هم السوريون أنفسهم وما كان ممكناً أن تكون عليه الحال في سوريا. إن هذا القسم الأخير مهم لأنه نافذة على من قد يكون الرابح الأكبر: الدول العربية المحافظة والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وجميعهم يريدون تجنب احتمال ما كان ممكناً أن تكون عليه الحال في سوريا. إن الميتا – خطاب الذي يقدمونه والمفضل لديهم هو الذي يفوز داخل سوريا ولكن ليس في المنطقة. هذه هي المعركة القادمة، إنها بين المقاومة / الامبريالية، الإسلاميين / العلمانيين، الأغنياء / الفقراء، المستبد / المعارضة، المجتمع الأبوي / دعاة تساوي الجنسين بالإضافة إلى العديد من الأشياء الأخرى. لقد بدأ هذا بالظهور بوضوح في مصر. إن المعركة الأكبر قادمة لا محالة، وسقوط النظام السوري والديكتاتوريات في الشرق التي تحمى من الخارج ستكون البداية فقط. سيتطلب الأمر وقتاً.
في هذه الأثناء، نتذكر ما قال زياد الرحباني في كلمات غناها جوزيف صقر في أوائل السبعينيات:
يا نور عينيّي، رحنا ضحيّة
ضحيّة الحركة الثوريّة
يا نور عينيّي
- يتبع -
[نشر هذا المقال للمرة الأولى على جدلية باللغة الإنجليزية وترجمه إلى العربية مازن حكيم ]